بحث نظرية التسامح في الفكر الأوربي


رسالة في التسامح
لجون لوك
وأثرها في الفكر السياسي الأوربي

بحت مقدم من قبل الطالب
باسم مزهر عبود
كجزء من متطلبات الماجستير في الدراسات الدولية
بأشراف
الأستاذ الدكتور عامر عبد زيد 

المبحث الأول :

جون لوك : الولادة والنشأة :
    ولد جون لوك في مدينة رنجتون بالقرب من مدينة برستول في انجلترا عام 1632 واستمرت حياته لعام 1704. إلتحق بمدرسة وستمنستر ومكث بها ست سنوات يتلقى اللغات القديمة. ولما بلغ العشرين من عمره دخل جامعة أكسفورد وقضى بها ست سنوات يتابع الدراسات التي تفضي إلى الكهنوت. في عام 1666 أتصل باللورد شافتسبري وهو رجل دولة وكان مهموما بالشقاق الديني الذي كان سائدا في أوربا على الإطلاق وفي إنجلترا على وجه التخصيص، وكان مؤثرا في بلاط تشارلس الثاني ، وكان كل منهما ملتزما بالتسامح مع تباين الغاية من هذا الإلتزام : الأول من أجل الكاثوليك والثاني من أجل البروتستانت. ومن هنا ، نشأت العداوة بينهما إلى حد حاول شافتسبري منع الكاثوليكي جيمس الثاني من خلافة تشارلس الثاني  وبسبب هذه المحاولة توقع شافتسبري الإعتقال ففر إلى هولندة عام 1682 . وكان جون لوك ملازما لشافتسبري لذا فرّ بعده إلى هولندة لأتهامه بالتورط في مؤامرة شافتسبري . وفي منفاه كتب لوك ( رسالة في التسامح ) بتحريض ممن شافتسبري . حررها باللاتينية ونشرها خالية من أسمه في عام 1689.

كان القصد من نشر رسالته في التسامح هو التسامح الديني بمعنى " أنه ليس من حق أحد أن يقتحم ، بأسم الدين ، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية " . ولهذا ، فإن " فن الحكم ينبغي ألا يحمل في طياته أية معرفة عن الدين الحق " ومعنى ذلك أن التسامح الديني يستلزم ألا يكون للدولة دين لأن " خلاص النفوس من شأن الله وحده . ثم إن الله لم يفوض أحدا في أن يفرض على أي إنسان دينا معينا . ثم إن قوة الدين الحق كامنة في إقتناع العقل ، أي قوة الدين كامنة في باطن الإنسان . وبسبب هذه الأفكار هوجم جون لوك فألف           رسالة ثانية في التسامح في يونيو 1690 ورسالة ثالثة في يونيو 1692.
        عندما عاد لوك من هولندا كان يناهز السادسة والخمسين من العمر. يقول المؤرخ والفيلسوف ديورانت في كتابه " قصة الحضارة ": كان لوك قد بلغ السادسة والخمسين من العمر حيث عاد من منفاه. ولم يكن قد نشر سوى بعض مقالات قليلة الشأن،  كون لم يكن احد يعرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه.
       ما هي إلا سنة واحدة، هي "سنة العجائب"، حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة رسائل والتي كتبها في هولندة وسماها باسمه  سمت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالم الفكر في أوربا. ظهرت "رسالة عن التسامح" في مارس 1689، في هولندا، ثم ترجمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في يونيو 1690 "رسالة ثانية عن التسامح". وفي فبراير 1690 أصدر مقال عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديمقراطية في إنكلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه                             "بحث في العقل الإنساني"، وهو أعظم المؤلفات أثراً في علم النفس الحديث. وعلى الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع مقال "الحكم المدني" قبله، لأنه كان تواقا إلى تزويد الثورة الجليلة بأساس فلسفي. ويستدل من ذلك ان كل المقالات والكتب كان قد كتبها في هولندة ولكن لخوفه من الملاحقة لم يكن قد طبعها او سميت باسمه .
        لقد عاش جون لوك اثنين وسبعين عاما ملأ فيها الدنيا وشغل الناس بعلمه وفلسفته ونظرياته السياسية.وظل تأثيره على الفكر السياسي مسيطرا حتى ظهور كارل ماركس. وكان تأثيره كبيرا في علم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني، ويعتبر من مؤسسي النظام الليبرالي الديمقراطي الحديث.
تأثر بآراء جون لوك الفيلسوف فولتير وكذلك المفكر مونتسكيو ولاقت أفكاره صدى عند الفيلسوف جان جاك روسو وغيره وتجلت معانيها في "إعلان حقوق الإنسان". وكذلك في "إعلان الاستقلال" الأمريكي و"وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الأمريكي. ويرى ديورانت أن نظرية لوك في فصل السلطات أخذ بها مونتسكيو ووسعها لتشمل السلطة القضائية و أصبحت عنصرا أساسيا في شكل الحكومة الأمريكية. لقد بلور لوك النظرية الليبرالية لدولة الحق والقانون. ودافع فيها عن حق الملكية وعن الحرية الفردية. ويمكن القول بأن أفكاره كانت وراء اندلاع الثورة الانجليزية التي أسست ولأول مرة في التاريخ دولة الحق والقانون.
كان جون لوك يقول إن الحرية لا تعني الإباحية وإنما المسؤولية. فالله زودنا بالعقل والحرية لكي نستخدمها بشكل صحيح لا بشكل خاطئ. والقانون الطبيعي الذي يحكم البشر قائم على العقل، وهو ذو أصل إلهي. وكان يرى  أن الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة وأن الاضطهاد يصنع المنافقين، أما التسامح فإنه يشجع المعرفة والحق. وقد اصّل لوك حملته من أجل التسامح حتى وافته المنية عام 1704
يعتبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أن مئة عقل بشري مثل جون لوك  في التاريخ ، كانت خلف أسرار النهضة في أوروبا، ولو أجهضت بشكل أو آخر لسارت أوروبا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
 لهذا لا يمكننا فهم النظام السياسي الحديث في أوربا إن لم ندرس فلسفة الفيلسوف الليبرالي جون لوك. فقد كان الرجل المفكر لهذا النظام الديمقراطي الذي زعزع العروش وأنظمة الطغيان والاستبداد وأحد كبار مؤسسي فلسفة التسامح في أوربا ومن الداعين إلى محاربة المتشددين المتعصبين ودعاة الطائفية.

المبحث الثاني :
رسالة جون لوك في التسامح:
يقول جون لوك ربما يتساءل أحد عن أفكاري الخاصة بالتسامح المتبادل بين المسيحيين المختلفين في مللهم ، فأنا من أجل ذلك أجيب بلا تحفظ وهو أني أنظر إلى التسامح على أنه العلامة المميزة للكنيسة الحقّة . فالبعض يتباهى بقدم الأماكن والألقاب ، أو بعظمة الطقوس ، والبعض يزهو بصلاح إيمانه ، بينما يفاخر الجميع بما يعتقدون أنه الإيمان الحق الذي لايشاركهم فيه أحد. هذه كلها وغيرها مما على شاكلتها إنما هي علامات على شهوة البشر في تسلط كل منهم على الآخر اكثر مما هي علامات على حب كنيسة الله. فلنسلم بأن لكل فرد الحق في التوجه نحو كل هذه الأمور ، لكن إذا تجرد من المحبة والتواضع وإرادة الخير للبشرية بمن فيها من غير المسيحيين فإنه ، في هذه الحالة ، لايمكن أن يكون مسيحيا حقا .
أما وظيفة الدين الحق فهي مختلفة تماما ، فالدين الحق لم يتأسس من أجل ممارسة الطقوس ولا من أجل الحصول على سلطة كنيسة ، ولا من أجل ممارسة القهر ، ولكن من أجل تنظيم حياة البشر إستنادا إلى قواعد الفضيلة والتقوى. فكل إنسان يحمل شعار المسيح ينبغي عليه ، أولا وقبل كل شيء ، أن يشن حربا على شهواته ورذائله . وذلك لأنه من العبث أن يكون الأنسان مسيحيا دون أن تكون حياته مقدسة وأن يكون سلوكه طاهرا ، وأن يكون رقيقا ومتواضعا : " ليتجنب الأثم كل من يسمى أسم المسيح " وكما قال المسيح لبطرس " وأنت متى تحولت إلى الأيمان ثبتت أخوتك " ( لوقا 22 : 32 ) فمن الصعب على إنسان الذي لايكترث بخلاصه الروحي أن يقنعني بإهتمامه البالغ لخلاصي.  فأمر محال على أولئك الذين تخلو قلوبهم من الديانة المسيحية أن يكرسوا أنفسهم بإخلاص لتحويل الآخرين إلى المسيحية . وإذا كانت البشارة والرسول موثوقا فيهما لايمكن لإنسان أن يكون مسيحيا دون محبة ودون الأيمان الذي لايؤثر بالقوة بل بالمحبة. والآن انا أسال ضمائر أولئك الذين يضطهدون ويعذبون ويدمرون ويقتلون بحجة الدفاع عن الدين. هل هم يفعلون كل ذلك وقلوبهم مملوءة بالصداقة والطيبة؟ وإذا كان جوابهم بالإيجاب فانا لن أعترف بذلك إلا عندما أرى أولئك المتعصبين والشرسين يقوّمون أصدقائهم ومعارفهم عندما يعصون قواعد البشارة ، وإلا عندما أراهم يحاربون بالنار والسيف أعضاء ملّتهم الذين تلوثوا بالرذائل ، والذين هم معرضون للعقاب الأبدي بسبب عدم طهارتهم ، وإلا عندما أراهم يعبّرون عن حبهم ورغبتهم في خلاص نفوسهم وتحملهم لآلامهم وتحملهم لجميع ألوان القسوة. فإذا كانوا يزعمون أنهم يجردونهم من ممتلكاتهم ويذيقوهم العذاب والجوع وفي النهاية يقتلونهم . كل ذلك إستنادا إلى مبدأ المحبة وإلى محبتهم لأرواح هؤلاء ، أقول إنهم أذا كانوا يفعلون كل ذلك من أجل أن يكونوا مسيحيين وأن يطمئنوا على خلاصهم ليس إلا ، لماذا إذن يمارسون الاختلاس وإيذاء الناس وعلى حد قول الرسول بولس بحيث إستمرأوا إرتكاب الإثم الشيطاني لكي يسيطروا على رعاياهم وشعوبهم. فمثل هذه الأمور وما شابهها مناقضة تماما لمجد الله وطهارة الكنيسة وإخلاص النفوس، بل إن تناقضها أشد من تناقضها مع الإنشقاق على أي قرار كنسي أو مع الإنفصال عن العبادة الجماعية حتى ولو كان أسلوب الحياة نقيا . لماذا أذن هذه الحميّة المشتعلة تجاه الله والكنيسة وخلاص النفوس؟ أقول لماذا هذا الإشتعال المتأجج بالنار والوقود ، وتجاهل الرذائل والشرور ، التي يقّر الكل بأنها متناقضة تماما مع المسيحية ، وتركها بلا عقاب والتوجه بكل قوة نحو إقامة الطقوس أو تأسيس الآراء التي غالبا ماتدور على أمور دقيقة ومتشابكة والتي تفوق قدرة الفرد العادي على الفهم؟ مَن من أولئك الذين يدعون إلى مثل هذه الأمور يكون على حق ومن منهم يكون متهما بالإنشقاق سواء كان من أصحاب السلطة أو من أصحاب الآلام؟ لكن ستكون هناك محاكم نعرف منها الإجابة .                               إن كل من يتبع المسيح يؤمن بعقيدته ويتحمل آلامه ، أقول إن هذا الإنسان مادام هو هكذا فلن يتهم بالإنشقاق والشعوذة . وأعتقد إن أي انسان يتصور أنه مهيأ لإنزال العقاب بإنسان آخر بدعوى أنه ينشد خلاص نفسه ، فإن مثل هذا الإنسان يبدو غريبا عن اي شخص آخر .
أذا زعم أي إنسان أنه ينبغي إستخدام السيف والنار لإجبار الناس على إعتناق عقائد معينة ، والإنتماء إلى عبادات وطقوس معينة بغض النظر عن " الجانب الأخلاقي " وإذا حاول أي إنسان أن يحوّل الآخرين إلى عقيدته وأن يجبرهم الإعتراف بها بدعوى أن عقيدتهم كاذبة ، وأن طقوسهم لايسمح بها العهد الجديد ، إذا حدث ذلك فمن المؤكد أن يكون مقصده تأسيس كنيسة مسيحية حقيقية وهذا الذي لايصدقه العقل. لهذا ليس من المستغرب على هؤلاء الذين لايدافعون عن إنتصار الدين الحق وعن كنيسة الله أن يستخدموا الأسلحة التي لاتنتسب إلى النضال المسيحي . فإن كانوا يريدون بحق الخير لنفوس الناس مقتدين في ذلك بأمير السلام ( السيد المسيح ) كان لزاما عليهم إقتفاء أثر خطواته وإتخاذه مثالا لهم عندما أرسل جنوده لإخضاع الأمم وضمهم إلى كنيسته ولم يكن ذلك بالسيوف أو العنف بل كان مسلحا بسلام العهد الجديد والأسوة الحسنة. فنحن نعلم أن المسيح كان يستطيع إخضاع الأمم بالقوة بإرسال كتائب من جنود السماء عددها يفوق مايكون ميسورا لكنيسة واحدة مهما تبلغ من قوة .  
إن التسامح بين أولئك الذين يعتقدون عقائد مختلفة في أمور الدين يتفق تماما والعهد الجديد الذي أتى به السيد المسيح ، كما يتماشى مع مقتضيات العقل الإنساني الحق ، ولايمكن لمن يستخدم العنف والإضطهاد والقسوة والذين هم لاينتمون إلى المسيحية بشيء ، وأن يقوموا بهذه الأفعال من أجل الصالح العام وتنفيذ القانون أو من أجل الدين . لذا ينبغي التمييز بدقة ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين ، وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهايات للخلافات التي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الإهتمام بصالح نفوس البشر ، من جهة ، ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى. وحيث أن الدولة مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها ، وتنميتها ، والخيرات المدنية هي الحياة والحرية والصحة وإمتلاك الأشياء مثل المال والأرض البيوت وماشابه ذلك.
إن واجب الحاكم المدني تطبيق القوانين ، بلا إستثناء ، لتوفير الضمانات التي تسمح لكل الناس على وجه العموم ، ولكل فرد على وجه الخصوص ، بالإمتلاك العادل للأشياء الدنيوية ، أما أذا حاول أحد أن ينتهك قوانين العدل والمساواة التي تأسست من أجل الحفاظ على هذه الأشياء ، فإن مثل هذا المغامر يجب أن يمنعه الخوف من العقاب الذي هو عبارة عن الحرمان من الخيرات المدنية أو من الخيرات التي من حقه أن يتمتع بها . وحيث إنه لايوجد إنسان يقبل بإرادته أن يوقع على نفسه العقاب بالحرمان من أي من ممتلكاته أو من حريته أو من حياته  ، لذلك ينبغي أن يكون الحاكم مسلحا بسلطة رعاياه وقوتهم من أجل معاقبة من ينتهكون حقوق الغير. وحيث أنه يتحتم على جميع إدارات الحكم أن تنشغل بالشؤون المدنية ، وأن تكون السلطة المدنية والحقوق والسيادة محكومة بهدف واحد هو رعاية هذه الشؤون وتنميتها بحيث لاتمتد هذه الرعاية بأي شكل من الأشكال إلى خلاص النفوس ، ويوجد عدة إعتبارات تبرهن على ماسبق:
الإعتبار الأول :
        لأن خلاص النفوس ليس من شأن الحاكم المدني أو أي من إنسان آخر ، ذلك أن الحاكم ليس مفوضا من الله لخلاص نفوس البشر ، وأن الله لم يكلّف أي إنسان بذلك، حيث أن الله لايفرض دينه على الناس بالقوة. ثم أنه من غير الممكن والمعقول أن يمنح الشعب مثل هذه السلطة للحاكم لأنه لايقبل أي إنسان سواء كان أميرا أو من أفراد الرعية ان يترك رعاية خلاصه بيد إنسان آخر لكي يحدد له إيمانا معينا أو عبادة معينة ، حيث لايمكن لإنسان أن يكيّف إيمانه طبقا لأوامر إنسان آخر ، لان جوهر الدين الحق وقوته يكمنان في القدرة على إقتناع العقل إقتناعا باطنيا ، كما أن الأيمان لايصبح إيمانا دون إعتقاد فمهما تكن العبادة الظاهرية وممارسة الطقوس فانك إن لم تكن على قناعة تامة بصدق هذا الإعتقاد وهذه العبادة وبرضا الله ، فإن هذا لايفضي إلى خلاص النفس بل يقف حجر عثرة أمام خلاصنا . ومن هذه الزاوية فإنك بدلا من التكفير عن خطاياك الأخرى بممارسة الدين تقدم إلى الله عبادة انت تؤمن بأنها لاترضيه فتضيف خطيئة أخرى هي النفاق وإزدراء الجلالة الإلهية. 

الإعتبار الثاني :
        إن رعاية النفوس ليست من شؤون الحاكم المدني لأنه يحكم بمقتضى سلطة ظاهرية ، بينما الدين الحق الذي ينشد خلاص النفوس ينشد إقتناع العقل إقتناعا باطنيا ، وأي شيء خلاف ذلك لايرضى عنه الله . ومن طبيعة العقل انه لايمكن إجباره على الإيمان إستنادا إلى قوة ظاهرية . فمصادرة الأراضي والسجن والتعذيب وماشابه ذلك لايمكن أن يغير الحكم الباطني على الأشياء.

        وقد يدّعي البعض أن الحاكم قد يلجأ إلى الحجج ليستدرج المشعوذين والمنبوذين إلى طريق الحق ويخلص نفوسهم . ليكن ، لكن هذا أمر يشترك فيه الحاكم مع الآخرين . فهو يُعلّم الناس وينشئهم ويصلح أخطاءهم بالعقل ، فسلطة الحكم لاتفرض على الحاكم أن يتغاضى عن إنسانيته ومسيحيته. لذا يجب التفرقة بين الإقناع والأمر ، فإن تلزم بالحجج شي وأن تلزم بالعقوبات شيء آخر. وتأسيسا على ذلك فغن سلطة الحاكم لاتمتد غلى تأسيس أي بنود تتعلق بالإيمان أو بأشكال العبادة إستنادا إلى قوة القوانين. ذلك أن قوة القوانين تفقد سلطتها إذا لم تقرن بالعقوبات ، والعقوبات في هذه الحالة تصبح منعدمة إنعداما مطلقا لأنها عاجزة عن إقناع العقل . فلا أي بند من بنود الإيمان ولا أي إلتزام بأية عبادة ظاهرية     ولا الإلتزام بأي مظهر من مظاهر العبادة يفضي إلى خلاص النفوس إذا كان هؤلاء الذين ينتمون إلى هذا الإيمان ويمارسون هذه العبادات على قناعة تامة بأن هذا الإيمان حق وهذه العبادة مقبولة من الله.

الإعتبار الثالث:
        إن العناية بخلاص نفوس البشر ليست من مهام الحاكم بأي حال من الأحوال لأنه حتى إذا أقررنا أنه من الممكن إقناع البشر وتغيير آرائهم بسلطة القانون وقوة العقوبات ، فإن كل ذلك لا يسهم أبدا في خلاص نفوسهم وفي حال إفتراض وجود حقيقة واحدة وطريق واحد إلى السماء فأي أمل هناك في أن يبلغها عدد أكبر من البشر إذا لم يكن لديهم سوى دين السلطان . إن الآراء الدينية التي يعتنقها أمراء العالم هي من التنوع والتناقض بحيث تجعلهم منقسمين مثلما هو الحال في شأن مصالحهم الشخصية وهذا يعني أن بلدا واحدا يمتلك الحقيقة وأن بلدان العالم الأخرى محكوم عليها الخضوع لأمراء هذا البلد في الأمور التي تؤدي إلى هلاكهم. 

        هذه الأسباب وحدها ، بالإضافة إلى أسباب أخرى عديدة كافية للتدليل على أن سلطة الحكم المدني تتعلق فقط بالخيرات المدنية للبشر ، وتقوم على حماية الأشياء المتعلقة بهذا العالم ولا تمت بأية صلة إلى العالم الآخر.

        أما إذا أردنا أن نعرف ماهية الكنيسة  ، فإن الكنيسة عبارة عن جماعة حرّة من البشر الذين يجتمعون بمحض إرادتهم بهدف عبادة الله وبأسلوب يتصورون أنه مقبول من الله وكفيل بخلاص نفوسهم. 

        يقول جون لوك إن الكنيسة مجتمع حر ذو إرادة ، فلا أحد يولد عضوا في أية كنيسة ، وإلا فإن الدين في هذه الحالة ، ينقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء تماما مثل الأرض طبقا لحق الإرث. وبناءا على ذلك فإن كل فرد يحتفظ بإيمانه بنفس الطريقة التي يحتفظ بها آباءه . فهل يمكن تصور مثل هذا الوضع غير المعقول؟ لذلك ينبغي تصور الأمر على النحو التالي:
        ليس ثمة إنسان ملتزم بطبيعته بكنيسة معينة أو بطائفة معينة ، ولكنه ينضم طواعية إلى كنيسة ما يعتقد أنه يمارس فيها العقيدة الحقة والعبادة المقبولة من الله . وحيث إن الدافع الوحيد وراء إنضمامه إلى مثل هذه الكنيسة هو أمله في الخلاص لذا هذا الدافع هو علة إستمراره فيها. فإن إكتشف أخطاء في معتقدات الكنيسة التي إنضم إليها أو أية تناقضات في أساليب العبادة ، فلماذا لا تترك له حرية الخروج من هذه الكنيسة مثلما كانت له حرية الإنضمام إليها؟ .

        إن الكنيسة في نظر جون لوك مثلها مثل الشركة أو المؤسسة الحكومية لايمكن أن تستمر دون أن تتفكك إذا لم تكن محكومة بقانون وكان أعضاءها ملتزمين بنظام معين يحدد مكان الإجتماع وزمانه ، كما يحدد قواعد قبول الأعضاء وفصلهم ، وكذلك تحديد المسؤولين عن العمل وتنظيم مسار العمل وما شابه ذلك . كل هذه الأمور لا يمكن تجاهلها ولكن قلنا إن إنضمام مجموعة من الأفراد إلى مجتمع الكنيسة هو فعل حر وتلقائي خالص ، يصبح حق سن القوانين من إختصاص المجتمع أو من إختصاص الناس الذين فوضهم المجتمع بالإجماع لينوبوا عنه في ممارسة هذا الحق.
        قد يعترض البعض بدعوى أن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يكون كنيسة حقّة إلا في حالة وجود أسقف يتمتع بسلطة حاكمة يستمدها من الرسل ويتوارثها عبر سلسلة متصلة. على هؤلاء يقول جون لوك ، أولا بينوا لي المرسوم الذي صاغه السيد المسيح ليفرض هذا القانون على الكنيسة . وأرجو أن لا يتهمني أحد بالمروق إذا طالبته بإعلان صيغة هذا المرسوم بوضوح وجلاء، لآن الوعد الذي قاله السيد المسيح لنا هو " أينما إجتمع إثنان     أو ثلاثة بأسمي ، هناك سأكون بينهم " ( أنجيل متي ) ويبدو أن السيد المسيح يومئ إلى الضد من ذلك .
        إن غاية أي مجتمع ديني هي عبادة الله ، وبالتالي نوال الحياة الأبدية . ولهذا ينبغي أن يتجه أي نظام إلى تحقيق هذه الغاية ، وأن تكون جميع القوانين الكنسية محكومة بهذه الغاية . ولكن إذا سئلت : ما هي الوسائل التي بها تتأسس القوانين الكنسية إذا كان من اللازم خلوها من أية قوة قهرية؟ فالجواب هو : ينبغي أن تؤسس بوسائل ملائمة لطبيعة هذه القوانين حيث تكون الممارسة الظاهرية للعقيدة عديمة الفائدة والمنفعة إذا لم تصدر عن إقتناع وإستحسان من العقل . وإذا لم تكن هذه الوسائل كافية إصلاح الآثمين وإقناع المخطئين فلا يسعنا أزاء هؤلاء المعاندين ، الذين ليس لديهم أي أساس نقيم عليه أملا في إصلاحهم ، إلا غستبعادهم وعزلهم عن المجتمع وهذه هي أقصى وأعظم قوة تخص السلطة الكنسية .
وليس من عقاب آخر يمكن أن يصيبهم سوى بتر العلاقة بين الجسم والعضو المبتور .

والإنسان المحكوم عليه بهذا العقاب يمتنع أن يكون جزءا من الكنيسة . 

        وتأسيسا على ذلك دعنا نتساءل إلى أي مدى يمتد واجب التسامح وما الذي يتطلبه هذا الواجب من كل إنسان؟
        أولاَ : إن أية كنيسة ليست مكلفة ، بحكم واجب التسامح ، بالإحتفاظ بأي إنسان يخرج على قوانين المجتمع في حضنها لأن هذه القوانين هي أساس الرباط الإجتماعي . فإذا سمح بإنتهاكها دون عقاب فغن المجتمع سرعان ما يتفكك. ومع ذلك فإن مثل هذه الحالة لايتوجب عليها الطرد من الكنيسة أو أي خدش شواء بالكلمة أو بالفعل ما يترتب عليه إحداث ضرر في بدنه أو ممتلكاته ، لآن إستخدام القوة هي من إختصاص الحاكم وحده.
        ثانيا : ليس من حق أي شخص بأي حال من الأحوال ، أن يحقد على شخص آخر في شأن متعه المدنية لا لسبب إلا لأنه ينتمي لكنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر . فكل الحقوق والإمتيازات التي تخص هذا الشخص هي من حقوق المواطنة لديه ومن المفروض أن تكون محفوظة له دون أن تنتهك.
ذلك أن هذه الحقوق والإمتيازات لا علاقة لها بالدين. فإذا ضلّ إنسان الطريق السوي فذلك من سوء حظه ، ولا يترتب على ذلك أي ضرر يلحق بك ، ومن ثم فلا يحق لك معاقبته في أموره الدنيوية لمجرد أنك تعتقد أنه سيكون بائسا فيما يحدث له في الحياة الآخرة . كما لايمكن لكنيسة لأن تعاقب كنيسة أخرى لمجرد أنها تخالفها الرأي وليس من حق الكنيسة أن تعاقب الحاكم وليس للحاكم بمعاقبة الكنيسة حتى وإن كان لاينتمي لهذه الكنيسة ، لذا فغن الكنيسة تظل دائما كما هي سواء إنتمى إليها الحاكم          أو إنفصل عنها
. أعني تظلّ مجتمعا حراَ ذا إرادة .
        وتأسيسا على ذلك فلا الأفراد ولا الكنائس ولا الدولة لديها أي مبرر للإعتداء على الحقوق المدنية والخيرات الدنيوية بدعوى الدين . أما الذين لايرون هذا الرأي فإن عليهم أن يتأملوا أنفسهم وهي تزرع في البشرية بذور النزاع والحرب ، وتثير الكراهية والنهب والسلب بلا حدود . فلا السلام ولا الأمان ممكنة ومصانة طالما ساد الرأي القائل بأن الهيمنة مؤسسة على اللطف الإلهي وأن الدين لا ينتشر إلا بقوة السلاح . 
        ثالثاَ : لنتفحص ما يتطلبه الإلتزام بالتسامح من أولئك الذين يتميزون عن سائر البشر ( أي عن العامة كما يحلو لهم أن يصفونا بهذه الصفة ) بخصائص كنسية ودينية سواء كانوا أساقفة أو شيوخ الكنيسة أو كهنة . فكل ما نريد قوله هو أيا من كان مصدر السلطة فإن السلطة مادامت ذات طابع كنسي فيجب أن تكون مقيدة بحدود الكنيسة إذ ليس في إمكانها ـ بأي حال من الأحوال أن تمتد إلى الشؤون الدينية لآن الكنيسة ذاتها منفصلة عن الدولة ومتميزة عنها تماما .
        ولكن ليس هذا هو كل المطلوب قوله ، إذ ليس كافيا أن يمتنع رجال الكنيسة عن العنف والنهب وكل أساليب الإضطهاد . فمن يزعم أنه خليفة الرسل وأنه مكلف بالتعليم فإنه ملزم أيضا بتذكير مستمعيه بإلتزامات السلام والإرادة الخيرّة إتجاه البشر .
        لقد دللنا فيما سبق على أن رعاية الأرواح ليست من مهمة الحاكم ، لأن مهمته محصورة في وضع القوانين والإجبار على تنفيذها عن طريق العقاب .
أما الرعاية بالمحبة التي تنحصر في التعليم والوعظ والإقناع فهي من حق أي إنسان وهي متروكة له .
      فما يقرره الحاكم المدني واجب وعلى الجميع الإلتزام به وبحكم سلطته يأمر بعدم إعتناق أي فكر ديني بخلاف ما تقدمه الكنيسة من تعاليم بحيث يصبح الحكم في مثل هذه الأمور من شأن الكنيسة وحدها . بل إن الحاكم نفسه يخضع لهذا الحكم ويطلب من الآخرين نفس الخضوع . والرد على هذا هو ، من منّا لايرى كم مرة إستخدم أسم الكنيسة ، الذي كان مبجلا في عصر الرسل ، في ذر الرماد في عيون الناس في العصور التالية ؟ فمعرفة الحاكم بالطريق الضيق الوحيد المؤدي إلى الجنة ليست أفضل من معرفة المواطنين ، ولهذا فليس بإمكاني أن أتخذ من الحاكم مرشدا وواعظا لي ، فأغلب الظن أنه جاهل بمعرفة الطريق مثل جهلي. 

        وتأسيسا على ذلك يصبح من الميسور أن نفهم الغاية التي ينبغي أن تنشدها السلطة التشريعية ، والمعايير التي تنظم مسلك هذه السلطة . وهذا هو الخير الزماني والثراء الظاهري للمجتمع ، وهو السبب الوحيد في تأسيس البشر للمجتمع . بل هو الشيء الوحيد الذي ينشدونه في هذا المجتمع . ومن البيّن كذلك الحرية التي يتمتع بها الناس بالنسبة إلى خلاصهم الأبدي. وينبغي على الحاكم أن لا يتسامح مع الآراء المضادة للمجتمع الإنساني أو مع القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني ولكن هذه الأمور نادرا          ما تحدث في أية كنيسة ، لأنه لاتوجد طائفة يصل بها الحال إلى درجة الجنون يسمح لها أنها مؤهلة لتعليم عقائد من الواضح أنها تقوّض أساس المجتمع ، وبالتالي فإنها موضع إدانة من الإنسانية برمتها ، لأن مصالحها وسمعتها معرضة للخطر. 

        لايمكن على الإطلاق للتسامح أن يتعايش ويسمو مع الذين ينكرون وجود الله . فالوعد والعهد والقَسَم ، من حيث هي روابط المجتمع البشري ، ليس لها قيمة بالنسبة للملحد. فإنكار الله ، حتى لو كان بالفكر فقط ، يفك روابط جميع الأشياء . هذا بالإضافة إلى أولئك الملحدين الذين يدمرون كل الأديان ليس من حقهم أن يستندوا إلى الدين لكي يتحدوا .  

        كما تحدث جون لوك عن ما سماه فجاجة المجتمعات والتي كانت مأوى وحضانة للمنشقين عن الكنيسة والتي تقدم أقوى إعتراض ضد نظرية التسامح . بيد أن ذلك لم يحدث لا بسبب عبقرية هذه المجتمعات وإنما بسبب الظروف التعسة التي توجد فيها حرية مقهورة  وقد تتوقف كل هذه الإتهامات إذا إضطرت الكنائس إلى أن تتخذ من التسامح أساس لحريتها ، وأن لا إكراه في الدين سواء بالقانون أو بالقوة . وعندئذ يتوقف الضمير عن الشكوى وإحداث الصخب . وعندما نزيل أسباب عدم الرضا والعداوة فلن يبقى شيء في هذه التجمعات أكثر سلاما وأقل عرضة لإحداث إضطرابات في الدولة مما هو حادث في التجمعات الأخرى . 

        إن الحاكم لايخشى كنيسته وإنما يخشى الكنائس الأخرى لأنه عطوف ومحب لكنيسته وقاس على الكنائس الأخرى . يتعامل مع شعب كنيسته على أنهم أولاده بل يغرقهم في ملذات الحياة . أما مع افراد الكنائس الأخرى فهو يتعامل معهم على أنهم عبيد ،            وهذا ما يولّد التآمر على الحاكم من قبل المضطهدين ويحرصون على التنكيل بالحاكم فليس الدين هو الذي يلهمهم ذلك وإنما المتاعب والإضطهادات هي التي تدفعهم إلى الرغبة في تهدئة أنفسهم . إن الحكومات العادلة والمعتدلة في كل مكان هي حكومات تنعم بالسكينة . أما القهر فإنه يفضي إلى الحروب الأمر الذي يدفع الناس إلى النضال من أجل التخلص من طوق العذاب والقهر. 

        لذا إنتهيت إلى إن التسامح ينطوي على نقيضه ، وهو عدم التسامح ، وهذه هي إشكالية التسامح ، إذن تناول قضية التسامح يستلزم بالضرورة تناول قضية التعصب .     بيد ان هذا التخوف قد زال بحكم ضرورة مواجهة التعصب .

        إنها قضية ليست جديدة ، ومع ذلك لها أهمية خاصة في العالم الحديث لسببين : إن التسامح الثقافي يتجاوز التناول التقليدي على أنه ديني فحسب ، وثانيا لأن هذه القضية هي المدخل الرئيسي إلى تقدم المجتمعات .

ان اعجبك موضوعنا فنرجوا ان تنشره :

+ التعليقات + 2 التعليقات

23 ديسمبر 2011 في 4:32 ص

مشكوور والله يعطيك العافيه

23 ديسمبر 2011 في 4:32 ص

مشكوور والله يعطيك العافيه

إرسال تعليق

 
الحقوق: copyright © 2011. مدونة فضفضة -تعريب مدونه فضفضه